مقالات
الكاسيت: عن قصص حب بدأت ولم تُكتب نهايتها بعد
دلير يوسف
في قلب دمشق، وبالقرب من مركز المدينة المعروفة بساحة المرجة حسب الاسم الشعبي، أو ساحة الشهداء حسب الاسم الرسمي، وحول حمّام القرماني الأثري تواجد سوق القرماني بمحاله المتنوعة، والتي أمكن المرء أن يشتري منها كلّ ما تحتاجه الحياة؛ من بطاريّة الساعة وصولًا إلى تأثيث بيت كامل، كلّ ذلك قبل أن تقوم البلديّة بهدم السوق بأكمله والإبقاء على بقايا الحمّام الأثري، وتُنشئ حوله حديقة بشعة.
في قلب سوق القرماني، كان السوق المسقوف بصفائح التوتياء، يحوي محالًا متنوعة تبيع الخضار ومنكّهات الطعام (البهارات) والثياب وسندويشات رخيصة وأحواض سمك وساعات وكلّ ما لا يخطر في بال الحالم بسوق متنوع. بضع درجات كانت تفصل مدخل السوق عن شارع الثورة، ينزلها المرء فيدخل في متاهة من الروائح والألوان، يخرج من طرفها الآخر الواصل إلى سوق السمك وسوق الحمام، المُطلّة على ساحة المرجة.
بالقرب من السوق المسقوف، تواجد دكّان جدي، الذي هُدم مع بقيّة المحال التجاريّة ضمن خطة البلديّة التنظيميّة سنة 2004. في ذلك المكان عشتُ مع إخوتي وأعمامي وأولاد عمتي سنوات طفولتي ومراهقتي الأولى، أو على الأقل في فصول الصيف، حين كنتُ أعمل هناك.
الكاسيت الأول
أحد تلك الدكاكين المتنوعة في السوق المسقوف كان دكانًا يحتوي على مئات، إن لم نقل آلاف، أشرطة الكاسيت المنسوخة غير الأصليّة. كان اسم المحل، حسب ذاكرتي المتعبة، تسجيلات المحطة.
عند تسجيلات المحطة، كل ما يشتهيه المرء من كاسيتات؛ أغنيات دينيّة وأغنيات شعبيّة وأغنيات أعراس، كان عندهم أشرطة كاسيت تحتوي أغنيات لأم كلثوم وفيروز ومحمد عبد الوهاب وكلّ مطربي ومطربات الموسيقى العربيّة الكلاسيكيّة، وفي نفس الوقت احتوى الدكّان كاسيتات لمطربين/ات وفنانين/ات لم يُسمع بهم/ن من قبل سوى في إطار محلي ضيّق، كمغنيّ الأعراس المحليّة، مثل عمر سليمان والذي أصبح لاحقًا نجمًا عالميًا يغني في مسارح باريس ولندن وبرلين ونيويورك، ومغنيات سبقن سارية السواس في الشهرة المحليّة وانتشرت أصواتهن في سيارات الأجرة التي تدور في شوارع المدينة دون تعب.
إضافة إلى أولئك، كان بإمكاننا إيجاد نسخ غير أصليّة لأشرطة كاسيت فناني البوب العرب، أولئك الذين وصلت شهرتهم إلى أبعد بيت في قرية نائية، كمثل عمرو دياب وكاظم الساهر وجورج وسوف.
في إحدى تلك السنوات، سنوات بداية الألفيّة الجديدة، كان أخي الذي يكبرني بسنوات قليلة يعطي دروسًا خصوصيّة لإحدى جاراتنا التي تصغره بعامين. وحين وقعت هذه الفتاة في حبه اشترت له شريط كاسيت أصليّ لألبوم كاظم الساهر الجديد كتعبير عن حبها له. لم يكن أخي يسمح لي بلمس الكاسيت أو الاستماع إلى أغنياته إلّا حين يستمع هو إليها.
غضبتُ منه، وتعاركنا مرارًا من أجل أن يسمح لي بسماع الشريط، فقد كان كاظم الساهر حينها مطربنا المُفضّل، نحفظ كلّ أغانيه عن ظهر قلب، وكأنّنا عشّاق نملأ الكونَ حبًا. مع عناد أخي قرّرت شراء شريط الكاسيت مرة أخرى، ولأنّنا كنّا صغارًا، ولأنّنا كنّا فقراء، لم أستطع شراء النسخة الأصليّة، وأنقذتني تسجيلات المحطة بنسخها الرخيصة المنسوخة غير الأصليّة.
هكذا صار عندنا في البيت كاسيتان اثنان لنفس الألبوم، واحدٌ أصلي يملكه أخي، وهذا له غلاف سميك وألوان جميلة وفي داخل الغلاف المكوّن من صفحات صغيرة ملونة مطويّة صور أخرى لكاظم الساهر وأسماء الأغنيات وأسماء كتّاب الكلمات واسم الموزّع الموسيقي، والأهم كان وجود كلمات هذه الأغنيات مكتوبة بشكل قصائد يستطيع قارئها أن يفهم كلّ كلمات الأغنيات، حتى تلك التي لا يفهمها المرء حين يستمع لأغنية ما دون أن يعرف الكلام.
ونسخة أخرى، أملكها أنا، غير أصليّة، لها نفس الغلاف الخارجي لكن بألوان باهتة، ولا يوجد داخلها أيّ صفحات إضافيّة، فلا نعرف كلمات الأغنيّات ولا حتى أسماء الشعراء أصحاب هذه الكلمات. لكن فرحي بهذا الكاسيت كان عظيمًا، فهو أول كاسيت اشتريته في حياتي.
ربّما من أجل هذه الذكرى، ومن أجل أشياء أخرى أذكرها من طفولتي ومراهقتي المُبكّرة في شارع الثورة وسوق القرماني، يحتل ذلك المكان جزءًا أساسيًا في قلبي وذاكرتي، وما الذاكرة إن لم تكن أصواتًا وصورًا وروائح وخبرات؟ كلّ هذه الأشياء قدمها لي سوق القرماني بكرم وسخاء.
ستاندات الكاسيتات في المعارض
من هذه الذكريّات أنّ دكّان جدي في شارع الثورة كان يبيع الجوارب والأحزمة الجلديّة، بعد أن انتقل من استيراد الثياب المستعملة (البالة) وبيعها، وذلك لأنّ محافظة دمشق منعت هذا الأمر بدءًا من العام 1996، لتعود وتسمح بهذه التجارة لاحقًا إلّا أنّ حظ جدي كان قد أفلس.
لا أدري كيف، ولكن أحد أعمامي وعن طريق بعض معارفه استطاع أن يحجز لدكاننا مكانًا في بعض المعارض المتنقلة المؤقتة والتي تقام في مدن ريف دمشق، في دوما وعربين وغيرها من المدن والبلدات المحيطة بالعاصمة، وهذه المعارض هي في الحقيقة أسواق متنوعة فيها كلّ الأشياء التي يرغب بها المرء، وعادة ما تكون هذه الأسواق مقصدًا للعائلات في فترات المساء لتكون متنفسًا لهم، في مناطق لا توجد فيها مساحات عامة يلتقي فيها الناس.
يُقسّم هذا السوق الصغير المؤقت، إلى شوارع متداخلة وفي كلّ شارع عدد من المحال، أو المنصّات، المصنوعة على عجل، وفي هذه المحال بضائع مختلفة من ألبسة وأطعمة وأدوات منزليّة وألعاب، كما يوجد عدد منهم مختص ببيع أشرطة الكاسيت المنسوخة بمسجّلات قديمة من ماركة سوني أو باناسونيك، الأكثر انتشارًا في سوريا آنذاك.
حدث في عدد من المرات أن أذهب مع أحد إخوتي، أو أحد أعمامي، إلى بائعي أشرطة الكاسيت كي نشتري أشرطة جديدة نستمع إليها في بيتنا المليء بالأشرطة. نسأل البائع عن كاسيات لماجدة الرومي أو لمحمد منير، والذين كانوا في سوريا آنذاك -للمفارقة المُضحكة- يُشكّلون "الموسيقى البديلة"، قبل أن يصيروا موسيقى سائدة تسمعها في كلّ القنوات الفضائيّة والإذاعات المحليّة وبرامج الغناء للهواة.
كان البائع يجيبنا في كثير من الأحيان: "من هؤلاء؟ من أين تجلبون مثل هذه الأسماء؟". لم يكن يعرف البائع من هو محمد منير، أحد المغنين الأكثر شهرة في مصر، رغم وجود مئات الأشرطة لمئات المغنيين والمغنيات أمامه على الطاولة، وذلك لأنّه يستمع ويستمتع بنوع آخر من الأغنيات، أغنيات مثل "مذلة مذلة درب الهوى مذلة، الله يلعن أبو الحب ضيّع العمر كلّه" التي يغنيها ملك المذلّة مفيد طحطح، أو أغنيّة "وردة وردة عالقطن تعالي، دردي أشوفج عاللوح الشمالي" إحدى أشهر أغنيات شمال شرق سوريا على الإطلاق، أو أغنيات الفنان الصاعد حينها وفيق حبيب، أو كاسيات لمغني غوطة ريف دمشق المحليين مثل أبو نعيم القابوني وأبو زيد عفوف ومحروس الشغري.
إذاعة القدس
في بيتنا كان الأمر مختلفًا قليلًا. مثل أيّ بيت كردي، تلعب الموسيقى دورًا كبيرًا في حياة هذا البيت، فمن جدي الذي يستمع، كلّما أراد التمتع بلحظات من الحياة، إلى شرائط كاسيت سُجّل عليها أغنيات كرديّة كلاسيكيّة لمغنين يعرفهم كلّ الأكراد، مثل صديقه محمد شيخو، أو محمد عارف جزيري وغيرهم، إلى شرائط كاسيت أبي وأمي والتي تكون عادة لمطربين مثل شفان برور وناظم الغزالي وفؤاد سالم وغيرهم من المطربين الأكراد والمغنين العراقيين (ملاحظة هامشيّة: أمي عراقيّة الأصل والمنشأ) الذين يذيبون القلب بأصواتهم وأغنياتهم.
بالطبع احتوى بيتنا على أشرطة لفيروز وأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ وأسمهان وغيرهم من أشهر المغنيين/ات الكلاسيكيين/ات العرب. وأضاف الجيل الجديد، جيلي أنا وإخوتي، أشرطة كاسيت لموسيقى أجنبيّة مثل باك ستريت بويز وسيلين ديون وأشرطة لجوان حاجو وكاظم الساهر وغيرهم.
لكن، ربما كانت أولى جمل "المقاومة" التي انطبعت في ذاكرتي كانت تلك المطبوعة على أغلفة كاسيتات أصدرتها إذاعة القدس، وكانت كلّها أشرطة لأغنيات "ملتزمة" لمارسيل خليفة وسميح شقير وغيرهم من مغني/ات "الفن الملتزم". كانت تلك الجملة التي تقول "على طريق تحرير الأرض والإنسان" مطبوعة على الوجه الأمامي لغلاف شريط الكاسيت. لا أذكر اليوم شكل الغلاف أو لونه، أتذكر فقط هذه الجملة وأغنيات مثل "منتصب القامة أمشي، مرفوع الهامة أمشي، في كفي قصفة زيتون وعلى كتفي نعشي" و"مظاهرات مظاهرات تملا الشوارع والحارات" و"رمانة رمانة على خصري وكلاشينكوف بإيدي ودنيا شعلانة".
كاسيتات وأغنيات حب
كبرتُ وصرتُ مراهقًا يحبُّ ويعشق ويستمع لأغنيات تذيب القلوب، وصارت الكمبيوترات أكثر انتشارًا، وصارت بعض البيوت تمتلك كمبيوترات، وصار الناس يستمعون للموسيقى وللأغنيات عن طريق أقراص مدمجة اسمها "سي دي"، ومن لم يمتلكوا كمبيوترًا، امتلكوا أجهزة مُسجّلة تستطيع تشغيل "السِيدِيات".
لكن ورغم ذلك كان الاعتماد على أشرطة الكاسيت أكثر انتشارًا، وظلّ الكاسيت محتفظًا بصدارته كوسيلة استماع أساسيّة للموسيقى، وكانت محلات أشرطة الكاسيت منتشرة في طول البلاد وعرضها.
تطبيق شريط كاسيت خاص، كان من الأمور الشائعة في بداية سنوات الألفيّة، يذهب أحدنا إلى دكان مختص بالتسجيلات الصوتيّة ويطلب من العامل هناك أنّ يصنع له شريطًا من أغنيات مختلفة لمطربين مختلفين، وعادة ما تكون تكلفة مثل هذه العمليّة الماديّة ليست كبيرة.
أذكر مرّة ذهابي إلى دكان طلبت منه تجميع أغنيات لعمرو دياب ووائل كفوري و"تترجى فيا" أغنية إيهاب توفيق الأشهر، وغيرها من الأغنيات التي امتلكت شهرة رومنسيّة جارفة في سنوات القرن الواحد والعشرين الأولى.
حصلت على الشريط الرومنسي الخاص بي، أنا المراهق الذي أعتقد أنّ الدنيا ملك مشاعري، وأرسلتها إلى "صديقة"، وهي ابنة عائلة صديقة لعائلتنا. كانت تكبرني بعشرة أعوام على الأقل، وكنت أحسب نفسي أحبّها، وإن كان حبًا من طرف واحد. كانت تحبّني حبّ أختٍ لأخ صغير ربّما، لكنّني فهمت إشاراتها بشكل خاطئ، فظنّنت أنّها تبادلني حبًا عذريًا.
الكاسيت داخل الووكمان
في تلك السنوات، كان الووكمان (ًwalkman) هو الجهاز الأكثر "كولنة" (من cool) بين الشباب، من يملك ووكمانًا مثله مثل من كان يملك الكرة حين كنّا صغارًا، يتحكم بنا وبأوقات لعبنا وبتقسيمات فرقنا، وذلك حين كنا نلعب كرة قدم في الشوارع.
لا أدري كيف لكنّني أتذكر امتلاكي ووكمانًا على الرغم من فقر عائلاتي في تلك السنوات، أو ربّما كان ملكًا لأخي، لا أعرف، اختلط الأمر عليّ بعد كلّ هذه السنوات. لكنّني مؤخرًا اكتشفت بين أغراض شريكتي القديمة ووكمانًا يشبه ما كان عندي.
اشترينا بطاريات جديدّة كي نشغّل الووكمان لابنتنا التي تبلغ الثالثة، كي تستمع لبعض الأغنيات القليلة، مُسجّلة على أشرطة كاسيت قليلة يعتليها الغبار وُجدت بين أغراض شريكتي، إلى جانب الووكمان المنسيّ.
هل أسميّ هذا نوستالوجيا الكاسيت؟
دلير يوسف