مقالات
تطور الموسيقى السورية: رحلة الشعبي والتقليدي إلى وسائل البث المختلفة
هلا مصطفى
كان للتحولات السياسية الكثيرة والسريعة في النصف الأول من القرن العشرين تأثيرها الكبير على المشهد الثقافي والموسيقي السوري لعشرات السنوات اللاحقة. غاب الاستقرار الفكري مدة طويلة فيما يلي التقسيم الاستعماري لبلاد الشام، وتغيير شكل حدودها وتوزيعاتها الجغرافية. كما سادت في سوريا طويلاً حالة من الفوضى السياسية الداخلية مع بداية الخمسينيات، حيث تنازعت التشكلات الحزبية الجديدة بمختلف أشكالها على السلطة. اختبرت البلاد سنوات قصيرة من الوحدة مع مصر قبل أن يحدث الانفصال. انتهى كل ذلك مع وصول حزب البعث العربي الاشتراكي إلى سلطة الحكم في العام 1963. أصبحت الحياة السياسية حينها أكثر استقراراً، بلا انقلابات ولا أحزاب متنازعة. وبدأت الثقافة السورية تكتسب الصبغة البعثية التي صبغت كل أركانها، مع بضعة استثناءات هنا وهناك.
كان عمر إذاعة دمشق حينها خمساً وعشرين عاماً، أمضت معظمها في متابعة هذه التحولات والتغييرات الجذرية في سوريا وفي المنطقة بأكملها. وصل إلى الإذاعة من الموسيقى في تلك الأعوام ما سمح به الفكر الثقافي المسيطر في المنطقة، الفكر العروبي المتنور. حاول هذا الفكر إيجاد هوية ثقافية خاصة به بعد سنوات الاستعمار الطويلة، لكنه بقي بالطبع يتخذ الثقافة الغربية نموذجاً يحتذى، وبقي يحاول التقارب معها والاستلهام منها. اهتم هذا الفكر كذلك بالبقاء على الموجة ذاتها مع الأقطار العربية الأخرى. فكان للمشهد الثقافي العروبي الموحد الأولوية على المشاهد المحلية المتفرقة داخل سوريا، رغم غناها وتنوعها. هكذا، وبالتأثر بتجربة الإذاعات العربية التي سبقتها، وجد الموسيقيون والملحنون الجديون، من عازفي التخت الشرقي بشكل أساسي، والمغنون المحترفون من قارئي النوتة الموسيقية، طريقهم إلى إذاعة دمشق، وكان التركيز الأساسي في معظم الوقت على الغناء باللغة العربية الفصحى. بضعة استثناءات لمن نجحوا بالغناء باللهجات الشعبية عبر إذاعة دمشق شملت سركيس طمبورجيان، فإلى جانب تلحينه وغناءه لقصائد ابن زيدون وبدر الدين حامد وغيرهم، كان يقدم في نهاية الأربعينيات فقرة خاصة تحت اسم فتى العاصي، ويغني فيها من التراث الشعبي لمدينة حماة. كما تذكر بعض المراجع اسم رفيق شكري كأول من لحن وغنى باللهجة السورية، إذ ظهرت أغنيته في الفلا جمّال ساري عام 1942 في وقت كان الغناء باللهجات العامية مقتصراً على قوالب الغناء الشعبي الغير منوّط. كذلك، كانت تجربة سلامة الأغواني أبو المونولوج السوري، إحدى التجارب السبّاقة. بدأ الأغواني كتابة المونولوجات مع انتهاء فترة الاستعمار الفرنسي واستمر نشاطه سنوات طويلة بعد الاستقلال. كتب جميع مونولوجاته بنفسه وأداها عبر إذاعة دمشق أولًا ثم عبر التلفزيون السوري في بداية تأسيسه. ووضع الملحن صبحي سعيد ألحان معظم هذه المونولوجات.
بدأ بعد ذلك بث التلفزيون السوري الرسمي مع بداية الستينات، ليتيح مساحة واسعة وجديدة لأنواع الفنون المختلفة. كان أهمها الأعمال الكوميدية لأوائل الواصلين إلى التلفزيون السوري في مرحلة تأسيسه: نهاد قلعي، ودريد لحام، ورفيق سبيعي، ناجي جبر وآخرون. شكلوا سوياً فريقاً من الممثلين والمؤدين الكوميديين ضمن شخصيات وأدوار ثابتة رغم تبدل أسماء برامجهم ومسلسلاتهم عبر السنوات، من سهرة دمشق، إلى صح النوم، وحمام الهنا، ومقالب غوّار، وغيرها. تضمنت هذه الأعمال جميعها فقرات موسيقية متنوعة، استضافت مؤدين من مختلف المدارس والخلفيات الموسيقية. وبمراعاة الطابع الكوميدي البسيط المقدم باللهجة الشامية، والذي استلهم من المقهى والشارع والحي، كان لابد للأعمال الموسيقية المرافقة للبرنامج أن تتناسب مع هذه السمات. هكذا وجدت الموسيقى الشعبية الرائجة طريقها إلى التلفزيون السوري من خلال كوميديا غوار وحسني. قدّم الفنان رفيق سبيعي عبر شخصية أبو صياح العديد من المونولوجات الاجتماعية مثل قعود تحبب، ولا تدور عالمال، وشرم برم. كما كان الفنان الفراتي ذياب مشهور أول من ظهر عبر التلفزيون السوري في بداية السبعينيات بأغنيات شعبية فلكلورية، ومن ثم أخرى جديدة بلهجة المنطقة الشرقية وبالاستلهام من تراثها مثل طولي يا ليلة، وميلي عليا، ويا بو ردين.
كانت تلك المرحلة التي شهدت أكبر تداخل في الحدود بين الموسيقى الشعبية والموسيقى التقليدية في سوريا، وكذلك بداية الجدل حول المسافة والاختلافات بينهما. ويجب أن نتفق هنا ضمن هذا السياق أن ما نقصده بتسمية الموسيقى الشعبية هي كل الموسيقى الدارجة والمنتشرة محلياً بين الناس في أحيائهم ودوائرهم وأعراسهم وحفلاتهم، بالإضافة كذلك إلى كل ما استمروا بتداوله من موسيقى تراثية وفلكلورية متوارثة ضمن حيزهم الجغرافي سواء طوروا عليها أو حافظوا على صيغتها الأساسية. أما الموسيقى التقليدية فنقصد بها الموسيقى العربية التي تم غناؤها ضمن القوالب الغنائية العربية التقليدية، والتي عرفت طريقها إلى العامة عبر وسائل البث التقليدية –الحكومية الرسمية في الغالب-والتي التزمت لمدة طويلة خلال القرن الماضي بتقديم الموسيقيين الجديين المجددين الدارسين من قارئي النوتة الموسيقى ومؤلفيها ومغنيها.
كان المشهد الموسيقي التقليدي في سوريا حينها نشطاً ضمن مدرستين، تتأثر الأولى بالنجاحات الموسيقية في مصر. فمن المطربين السوريين في تلك المرحلة من غنى باللهجة المصرية ألحاناً تتأثر بمحمد عبد الوهاب وفريد الأطرش وغيرهم، ومنهم من انتقل إلى مصر ليقدم صوته لملحنيها. مثل فايزة أحمد التي انطلقت من إذاعة حلب في بدايتها، وانتقلت في منتصف مسيرتها إلى مصر وغنت لمحلنين منهم محمد الموجي، ومحمود الشريف ومحمد عبد الوهاب. نذكر كذلك محمد ضياء الدين، مها الجابري، وميادة الحناوي. تتأثر الثانية بالتجربة اللبنانية متمثلةً بالأخوين الرحباني ومن تعاون معهم أو انشق عن مسرحهم.
ثم ما لبث مشهد ثالث محلي بالولادة على يد ملحنين سوريين حاولوا إيجاد معادلة تستلهم من التراث والفلكلور الشعبي، وتجمعه بالموسيقى العربية، وتقدمه في قالب لحني منوّط لا يرتبط بتراث بقعة جغرافية واحدة، وعبر توزيعي آلاتي أكبر وأكثر تعقيداً من المعتاد في القالب الشعبي تقليلي الآلات. كذلك، رافقوا ألحانهم بكلمات أكثر عمقاً، إن كانت بساطة الكلمات هي أحد المآخذ على الأغنية الشعبية. أثمرت جهود هؤلاء الملحنين عن عدد من التجارب الناجحة على مستوى العالم العربي بأكمله. نذكر منها تعاون الملحن عبد الفتاح سكر مع فهد بلان في أنجح أغنياته: واشرح لها، لاركب حدك يالموتور، يا ساحر العينين، وكانت جميعها أغنيات جماهيرية ضاربة. شكّل بّلان طوال مسيرته، ظاهرة موسيقية جريئة. كان يسافر إلى مصر باستمرار ليؤدي أدوار البطولة في أفلام سينمائية مشهورة، ويغني لملحنين مصريين، ثم يعود إلى سوريا ويقدم مع سكر أغنيات باللهجة البدوية أو الحورانية، أو تراه في لبنان يتشارك الغناء مع صباح. حقق بلان نجاحات كبيرة على جميع هذه الأصعدة، وحققت مسيرته توازناً غير مسبوق، بين تقديم الغناء الشعبي محلي الهوية، والجماهيرية الكبيرة عربياً، والقدرة على أداء ألحان تقليدية القوالب.
كذلك تعتبر المطربة مها الجابري من الأصوات النسائية التي حافظت على هوية غنائية سورية بامتياز. فرغم غنائها من ألحان أكبر الملحنين المصريين مثل سيد مكاوي، وعبد العظيم محمد، ومحمد الموجي، إلا أنها بقيت تغني في سوريا وعبر إذاعتها وتلفزيونها الرسمي، وتعاونت مع معظم ملحنيها، مثل إبراهيم جودت الذي قدمت معه أغنيتها الأشهر شو بيصعب عليي، والملحن نجيب السراج، وزهير عيساوي، وسعيد قطب، وشاكر بريخان، وسليم سروة. كانت معظم هذه الأغنيات باللهجة السورية العامية البيضاء.
أما في حالة صباح فخري ففي تجربته أفضل مثال عن تقارب الموسيقى الشعبية والتقليدية. قد يرجع الفضل في نجاح هذه التجربة إلى الحالة الثقافية والموسيقية في مدينة حلب، التي لطالما احتفظت بهويتها المستقلة ضمن خط تطور منفصل دون التأثر بالمركزية الثقافية في العاصمة. لكن إمكانيات صباح فخري الصوتية الاستثنائية، وتتلمذه على يد كبار المنشدين والموسيقيين الحلبيين، واجتهاده في التلحين منذ عمر صغير، ساهم كل هذا في تأسيسه لمسيرة كثيفة الإنتاج، وغنية الألوان. غنى صباح فخري جامعاً بين قوالب الغناء العربي التقليدي، وبين قوالب الغناء الشعبي على حد سواء. فإلى جانب القصيدة والموشح والأدوار والقدود، غنى معظم ما يندرج تحت خانة الغناء الشعبي الذي مر على مدينة حلب، كالروزانا وأبو الزلف والموليا واللالا والمواويل المختلفة وخاصة الموال السبعاوي.
تشكل الأسماء الثلاثة السابقة على سبيل المثال لا الحصر، دليلاً على وجود هوية موسيقية سورية مستقلة، ونشاطاً عالياً سواء على صعيد التلحين، أو الكتابة أو الغناء. أسماء كثيرة لا يسع ذكرها جميعها، تألقت بالغناء داخل البلاد، ولكن اقتصار بث نتاجها على الإذاعة والتلفزيون السوري، وامتناع الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون حتى هذا اليوم عن إتاحة هذا الأرشيف للعامة، ساهم في فقدان جزء غير بسيط من الهوية الموسيقية المحلية، وتركت شرخاً بين الأجيال الماضية غزيرة الإنتاج، وبين جيل الموسيقيين السوريين الحاليين. من العوامل الأخرى التي ساهمت في ذلك أيضاً كان تبدل تقنيات التسجيل أكثر من مرة على امتداد القرن العشرين، فمن الأسطوانات إلى الشرائط، ومنها إلى الصيغ الرقمية المختلفة المتتابعة.
أثر ذلك على جهود الأرشفة الخاصة ضمن المجموعات الشخصية، والتي كانت الوسيلة الوحيدة لتناقل هذا الإرث الموسيقي الضخم خارج سياق الدوائر الحكومية السورية، إذ تطلب الأمر أن يواكب المؤرشف هذه التغييرات التقنية، ويحرص بنفسه على نقل هذه الموسيقى بدقة وبحرص إلى وسائل تخزين عصرية جديدة. تروي مئات العائلات السورية بشكل عرضي، الحكاية ذاتها، عن تخلصهم من أعداد هائلة من شرائط الكاسيت التي امتلأ بها كل بيت تقريباً في النصف الثاني من القرن العشرين، وتم رميها وإتلافها إما لعدم الاهتمام بما تحمله على اعتبار أنها موسيقى قديمة غير الدراجة، أو لعدم توافر التقنية لنقلها والاستماع لها عبر صيغ أخرى. بلدان أخرى، مثل لبنان الأقرب جغرافياً، شهدت ظهور إذاعات ومن ثم فضائيات خاصة غير حكومية، فتعددت فيها منصات البث وبالتالي اتسعت مساحات الوصول إلى الجمهور، كما اختلفت أساليب الأرشفة، والجهود الشخصية خلفها، مما ساهم في صون جزء كبير من النتاج الموسيقي اللبناني.
أما في حالة الموسيقى الشعبية على وجه الخصوص، فرغم تغييبها عن منصات البث الرسمية، إلا أن دوائر الاستماع إليها اتسعت كثيراً مع ازدهار حقبة الأشرطة. لم يخلو منزل سوري مع بداية السبعينيات، من مسجل شرائط، إذ كانت عملية الاستخدام، وصغيرة الحجم، كما لم تكن باهظة السعر كما كان الحال مع الغراموفون في بداية القرن العشرين. قد يكون أحد أهم الخصائص المرتبطة بحقبة شرائط الكاسيت، هو إمكانية الأداة التي تستخدم لتشغيل الكاسيت والاستماع إليه، والتي تسمى المسجلة باللهجة السورية العاميّة، أن تعمل كذلك كأداة تسجيل. لذا كان بوسع أي شخص يمتلك مسجل شرائط أن يبتاع الشرائط الفارغة زهيدة الثمن، ليقوم بتسجيل الصوت عليه مباشرةً، سواء في حفل زفاف، أو في جلسة موسيقية مغلقة، أو تسجيل برنامج إذاعي يبث مباشرة، أو حتى التسجيل عن شريط آخر. السهولة الكبيرة في استخدام الأشرطة والتسجيل عليها جعل علاقة العامة بالموسيقى أبسط، وأكثر شخصيةً.
صب ذلك حتماً في مصلحة الموسيقى الشعبية بمختلف ألوانها. إذ سمح شريط الكاسيت بتسجيلها، وبالتالي أرشفتها، وإعادة إنتاجها، وتناقلها بسهولة بعيداً عن المعايير الموضوعة من قبل محطات البث الرسمية والوحيدة في البلاد، وبالتالي ساهم في صونها وحمايتها من الانقراض. سمح ذلك لعامة الشعب أن تتبنى ما يناسب ذائقتها الخاصة من المشاهد الموسيقية المحلية في منطقتها. أصبح بوسع شخص ما في قرية نائية في الساحل السوري، أن يغلق صوت فقرة الأغنيات اللبنانية التي تتلو فقرة فيروز صباحاً عبر إذاعة دمشق الرسمية، ويستمع إلى شريط عتابا فؤاد فقرو، أو أن يختار شخص ما في حوران الاستماع إلى شريط مجوز أبو سلطان في يوم جمعة مع العائلة، عوض الاستسلام ومتابعة سلسلة البرامج البعثية المتتالية عبر التلفزيون الرسمي السوري.
شهدت فترة ازدهار شرائط الكاسيت إذاً أول مرحلة تسجيل وأرشفة حقيقية للموسيقى الشعبية السورية من قبل الشعب نفسه، ومما يستمعون إليه في أعراسهم ومناسباتهم وجلساتهم في المدن وفي الأرياف، والتي كانت مهمشة بالكامل في مراحل ماضية. جزء من هذا التهميش يقع على عاتق الفكر البعثي الذي لم يستطع احتضان غنى وتنوع الموسيقى الشعبية السورية المرتبط بتنوع الهوية السورية وتشعبها، إذ يتنافى ذلك مع فكره الوطني العروبي. جزء آخر كبير من هذا التهميش يأتي كنتيجة للفكر المتعالي السوري، مدني التمركز، والذي لطالما نظر إلى الأرياف وإرثها الثقافي نظرة دونية، بل ورفض في مرحلة ما الاعتراف بها كجزء من هويته.
إن الجزء الأكبر من أصالة الثقافة السورية، على كافة المستويات وليس الموسيقي فقط، يكمن في التنوع، تنوع الأديان والطوائف والمرجعيات والقوميات. يغني هذا التنوع الموسيقى السورية، ويضيف إلى شقيها الشعبي والعربي التقليدي، تصنيفات الموسيقى الإثنية والدينية، وما يندرج تحتها من فروع حافظت على هوية مستقلة دون مؤثرات أو تهجين في معظم الأحيان. إذ تزخر المنطقة الشرقية بالموسيقى السريانية، والآشورية، وتنتشر في حلب والمنطقة الشمالية الموسيقى الكردية والشركسية والأرمنية. واحتضنت الأرياف، مثلها مثل حال المدن الكبيرة، هذا التنوع كله، بل وزادت عليه تقاسمها قوالب غناء شعبية متنوعة، مثل العتابا والميجانا والزجل في الساحل السوري، والسويحلي في ريف الرقة، والهولية والجوفية في منطقة حوران، والأغنية الجزراوية في المنطقة الشرقية، وقوالب مشتركة في العديد من المناطق كالموال والدلعونا.
مع نهاية التسعينيات وبداية الألفية الجديدة، تأثر المشهد الموسيقي السوري بظاهرتين اجتماعيتين أساسيتين. أولها هي ما يسميه الباحثون اليوم ظاهرة ترييف المدن في المجتمع السوري والتي انعكست موسيقياً بالانتشار المفاجئ للأغنية الشعبية الساحلية في كل مكان، وثانيهما كانت توافد العراقيين إلى سوريا، خاصة فيما يلي حرب العراق.
في الحالة الأولى، وجدت الأغنية الساحلية، من بين كافة أطياف الغناء الشعبي، طريقها فجأة إلى العامة بشكل واسع ومفاجئ، حيث ظهرت فجأة الأغنية الرسمية الأولى لعلي الديك سمرا واني الحاصودة عبر التلفزيون السوري قبل أن تنتشر إلى فضائيات أخرى في البلدان المجاورة. الأغنية التي حملت لهجتها الثقيلة مفردات معقدة بالنسبة لجميع السوريين، والتي أتى لحنها من مدرسة طلال الداعور للتأليف والتوزيع على آلة الأورغ، شكلت صدمة ثقافية لبعض السوريين في المقام الأول. في العام ذاته، وفيما كانت بعض أصداء السخرية والاستهزاء تتابع الأغنية، قام ملحم زين الذي كان حينها مشتركاً في النسخة الأولى من برنامج المواهب سوبر ستار، الذي كان انطلاقه وعرضه وجماهيريته بحد ذاته أمراً صادماً للجمهور العربي، قام ملحم بأداء سمرا واني الحاصودي في إحدى الحلقات النهائية، على غير عادة البرنامج الذي كان يحرص على اختبار أصوات المشتركين ضمن اللون الطربي في معظم الأحيان. ساهم ذلك بالاعتراف بالأغنية كأغنية ضاربة خارج سوريا أيضاً، وتقديمها إلى جمهور أوسع، لتفتح الباب على مصراعيه أمام انتشار موجة الغناء الساحلية.
هذا الخيار المفاجئ من التلفزيون السوري الرسمي المحافظ بتبني هذا اللون، بقي موقع اهتمام الباحثين اللذين ربطوه بنظرية ترييف المدن في سوريا. يشير الباحث الثقافي الدكتور حسان عباس إلى ذلك في كتابه الموسيقى التقليدية في سوريا، كما ذكرها ضمن اقتباس له في أحد المقالات: "وجدت دراسة أنثروبولوجية حول هذه الظاهرة أن تحول السلطة في سوريا إلى سلطة عسكرية ساهم بشكل كبير في ترييف المدن. اذ أن أهالي الريف يميلون للانضمام إلى الجيش والمؤسسات الأمنية أكثر من أهالي المدن. بالمقابل قامت هذه السلطة الممثلة بعسكريين وأمنيين أغلبهم ريفيين بتعزيز تواجدها في المدن. الأمر الذي ساهم تلقائياً في فرض ثقافة الريفيين على أهالي المدن." يتابع: "إلى درجة صارت فيها الأغنية الشعبية وعلي الديك يمثلان الموسيقى السورية، وأصبحنا نرى الدمشقيين على سبيل المثال يستمتعون ويتمايلون على أنغام هذه الموسيقى".
بحسب هذا التحليل، فإن عبور أغنيات آل الديك ومن تبعهم ضمن اللون نفسه، من المشهد الشعبي المهمش إلى الانتشار والجماهيرية العربية، هو عبور دعمته السلطة السياسية ونفوذها. الأمر الذي تعزز على نحو أكبر بعد بداية الحرب السورية، فما بين هجرة المواهب السورية بشكل جماعي إلى خارج البلاد، وإعلان مغنيي اللون الساحلي ولائهم للنظام ودعمهم له، تركهم ذلك وحدهم ليتصدروا ساحة الإنتاج الفني الموسيقي السوري في الداخل وفي المنطقة. لولا ذلك، لما ضرَّ الدمشقيين أن "يتمايلوا" على أنغام الأغنية الشعبية الساحلية، لولا أنها صارت مرتبطة ومحصورة باسم علي الديك وإخوته. هم اللذين لم يكن يعرفهم الجمهور المحلي لهذه الأغنية في الساحل السوري قبلاً، واللذين يغيب عنهم بالكامل أي تمكن من أي من عناصر الأغنية الساحلية، وأولها قوة الصوت وإمكانية غناء اللون الجبلي وقوالبه التراثية المختلفة. فعلى امتداد الثمانينيات والتسعينيات، نذرت أصوات كثيرة نفسها لهذا اللون المنوع والغني، مقدمين أداءً جباراً للعتابا والميجانا والموال والدبكة، ويمكن لمس ذلك بسهولة بالعودة إلى أي أرشيف شرائط من تلك الحقبة. نذكر منهم فؤاد غازي، وبرهوم رزق، وجورج وسوف الذي كان ابن هذا اللون والخبير به منذ بداياته، وقبل انطلاقته العربية، وحتى أسماء مثل وفيق حبيب وأذينة العلي اللذان امتلكا أصوات قوية، وخامات مميزة، ومعرفة بالتأليف الموسيقي، وخبرة سنوات طويلة بالغناء الحي في المناسبات والأعراس في الساحل السوري، تركوا كل ذلك خلفهم ليلتحقوا بركب آل الديك بشكل أغنية البوب التي يقدمونها اليوم.
أما المؤثر الثاني فقد تعزز واتضح فيما يلي الحرب الأمريكية على العراق عام 2003، مع توافد أعداد كبيرة من العراقيين وانتقالهم للعيش في سوريا. أدى ذلك إلى الانتشار الكبير للأغنية الشعبية العراقية في المقاصف والملاهي الليلية في العاصمة دمشق. بل وأدى ذلك إلى ظهور العديد من المطربين السوريين الذي يقدمون أغنيات ضمن اللون الشعبي العراقي نتيجة اتساع شريحة جمهوره، وأبرزهم المغنية الشعبية السورية سارية السواس التي اعتقد كثيرون لسنوات أنها مطربة عراقية. يستمر أثر هذه الإضافة على الأغنية الشعبية السورية التي اقتبست بعض عناصر الغناء العراقي كالإيقاعات وأسلوب التوزيع وآلاته.
وجود جميع هذه المؤثرات وغيرها من العوامل التي غيرت ملامح وهوية الموسيقى السورية على امتداد عقود، لا يلغي وجود أجيال متعاقبة في سوريا من الموسيقيين الدارسين والمبدعين فسواء من المجتهدين شخصياً، أو من خريجي المعهد العالي للموسيقى في دمشق الذي حافظ لعقود طويلة على مكانة أكاديمية هامة ورائدة، تزخر سوريا بالأساتذة الخبراء بالموسيقى ونظرياتها وتأليفها وإنتاجها. مع ذلك، ونتيجة سنوات طويلة من التعليب والقمع الفكري والإبداعي، واحتكار أدوات الإنتاج والبث، تليها سنوات الحرب والنزوح والهجرة والشتات، نجد أن الإنتاج الموسيقي السوري اليوم هو الأفقر في المنطقة. إذ تكاد تنعدم المحاولات الجديدة سواء في ساحة البوب الدارج عربياً، أو على صعيد المشاهد المستقلة والجنرات البديلة باختلافها وتنوعها التي رأيناها في السنوات الأخيرة تصعد وتتطور وتنال شعبية أوسع في مصر ولبنان وفلسطين والمغرب العربي.
الجزء الأكبر مما يعانيه الموسيقي السوري أينما كان اليوم هو التشتت والضياع في الهوية، الأمر الذي يشكل حاجزاً أمام أي توجه إبداعي جديد خلاق أو تطويري. قد يستفيد هذا الضياع اليوم إلى حد كبير من العودة إلى الإرث السوري الموسيقي، أو ما سلم منه، مما استطاعت جهود الأرشفة الشخصية صونه والحفاظ عليه. وحدها هذه العودة إلى الموروث، والتعمق فيه وإعادة فهمه ضمن سياقه الصحيح، بتنوعه وغزارته وخصوصيته، وخلع أردية التعالي والمركزية والتعاطي بدونية مع الفروع المختلفة لهذا الميراث الموسيقي، قد تستطيع لربما أن تلهم وتحفز وتبدع أصوات وتوجهات سورية جديدة وأصيلة.
هلا مصطفى
هلا مصطفى كاتبة وصحافية وباحثة سورية مقيمة في دمشق. تركز ممارسة هلا على مراجعة ونقد الموسيقى الجديدة، إلى جانب الكتابة البحثية حول التراث الموسيقي في سوريا وبلاد الشام.
عملت هلا سابقًا في صحيفة السفير اللبنانية ، حيث غطت قضايا تتعلق بالشباب السوري. كما تكتب أيضًا في VICE Arabia كمساهمة في مقالات الرأي وتجري مقابلات ثقافية.
شاركت خلال العام الماضي في العديد من المشاريع المرتبطة بالثقافة السورية في الشتات مثل SACF (مهرجان الفنون والثقافة السوري الأول في لندن) ، ونقابة صدى الصوتية.