الإشتراك

اشتركوا بنشرتنا لتصلكم إشعارات عبر البريد الإلكتروني بأحدث ما ننشره

هذا الموقع محمي من قبل reCAPTCHA ويطبق سياسة الخصوصية و شروط الخدمة في Google.

نتائج البحث

0:00 | 0:00

0:00

Cover art for feature: FEAT_0002

مقالات

"أرشيف الشرائط السورية": أرشيف مجتمعي في العصر الرقمي

فرح زهرة

في العام 1990، أنشىء أول أرشيف موسيقي في التاريخ البشري. وقد كان إطلاق "أرشيف الفنوغرام – برلين"، بداية حقبة إنتاج التسجيلات الصوتية في ظل تزايد الإهتمام بحفظ الموسيقى، والإنشغال بمشاريع الدراسات الموسيقية المقارنة. ثم تأسست تباعاً أرشيفات موسيقية من قبل مؤسسات ثقافية رسمية مع بروز الدول القومية الحديثة، خاصة في النصف الأول من القرن العشرين. وقد كانت هذه المشاريع الموسيقية تستجيب لأجندات إيديولوجية، قومية، أو نخبوية.
خلال العقود التالية، أحدثت الأرشيفات الموسيقية تغييرات جذرية متعلقة بإشكاليات التجميع، الملكية، النشر، والوصول. وقد تبلورت حيوية التغييرات بشكل خاص في العقدين الأخيرين. أما منذ بداية الألفية الثالثة، فقد حدثت إنعطافة جذرية في فهم وممارسة صناعة، حفظ، وتقديم التراث الموسيقي. حيث بدأت مشاريع أرشفة الموسيقى تتبرعم من رحم الإحباط بسبب الإطار الإيديولوجي التقليدي للأرشفة، رقابة المؤسسات، والوصول المقيد. من هنا حاول بعض المؤرشفين المجتمعيين والهواة استعادة بعض التحكم على التسجيلات والمجموعات الأرشيفية والبحث في سبل توسيع نطاق ومستوى الوصول. واستفادت أيضاً هذه المشاريع من توافر شبكات الإنترنت العالمية، وعلى حد قول "أرجون أبادوراي Arjun Appadurai ": "من التدفق الثقافي العالمي" المتسارع، الذي ساهم فيه أيضاً التدفق عبر الحدود للشعوب، الأفكار، الإقتصاد، والتكنولوجيا.

إن ضرورة الأرشفة والتوثيق تصبح حتمية بشكل خاص في حالات الحروب والنزاعات المسلحة والتهجير الجماعي. وفي ظل هذه الحالات، فإن التوثيق يبرز دور الأرشيفات والمؤرشفين كشاهد عيان، كما تحدث عنها أحد علماء الدراسات الأرشيفية "سيفور" (Cifor, 2016). ولا يختلف هذا الأمر بالنسبة لسورية، فقد فرضت إنطلاقة الثورة في العام 2011، ولاحقاً الحرب، حاجة ضرورية لتوثيق فظائع هذه الحرب والتهجير، كما الضرورة القصوى لتوثيق التراث الثقافي للبلد. فارتكزت هذه الأعمال التوثيقية، على الخوف من فقدان التراث الثقافي للبلد، يحفزها في نفس الوقت إمكانية إحياء التراث المادي وغير المادي وإعادة تصور خارطة سورية الثقافية ما بعد الحرب. وعلى حد سواء، تنبه الفنانون السوريون، الموسيقيون، والناشطون في مجال الحقوق المدنية إلى دور التراث غير المادي، بالتزامن مع الفرص المتاحة في استعادة، هوية وطنية متماسكة، النسيج الاجتماعي، والذاكرة الجماعية، على الرغم من أنه لم يكن أمامهم أي مفر للهروب من النزاع المفروض عليهم. كما أن تهجير المجتمعات فرض بدوره ضرورة التأقلم مع الواقع الجديد.
من هنا جاء تأسيس أرشيفات رقمية مبنية على المبادرات المجتمعية. كان منها "الأرشيف السوري"، "الذاكرة الإبداعية للثورة السورية"، و"أرشيف التراث السوري"، وهي أبرز الأرشيفات التي أطلقت من قبل سوريين في مرحلة ما بعد الثورة والحرب. وفيما كان الأرشيفان الأولان يهتمان في الأساس بالتراث الثقافي والتعابير الفنية لسورية في ما قبل وخلال الحرب، فإن الأرشيف الأخير كان يهتم بتوثيق جرائم الحرب وانتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبت خلال هذه الحرب. وقد استفادت هذه الأرشيفات من رغبة وعزيمة الناس على التوثيق بأنفسهم، مستخدمين هواتفهم الذكية بالدرجة الأولى إلى جانب أجهزة أخرى. وبتعبير آخر، فإنه كما اندلعت الثورة والحرب على الأرض فإنهما كانتا أيضاً حاضرتين على صعيد الفضاء الرقمي.

في إطار هذه المشهدية من النشاط الثقافي، أبصر "أرشيف الشرائط السورية" النور. وعلى غرار المشاريع الأخرى التي تسعى إلى التوثيق، حفظ ومشاركة جوانب من التراث الثقافي لسورية والتعابير السورية الفنية، فإن هذا المشروع يهدف إلى وضع خارطة وحفظ الموسيقى التراثية والشعبية لسورية التي كانت متوافرة على الأشرطة في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي وفي بداية الألفية الثالثة.
تشمل مجموعة "أرشيف الشرائط السورية" 600 شريطاً، تضم مروحة واسعة من أنماط الموسيقى المحلية التي تغطي أنواع الموسيقى الشعبية، المدينية والعصرية امتداداً من الحسكة في شمال شرق سورية وصولاً إلى السويداء في الجنوب الغربي.

إن أفضل توصيف لـ "أرشيف الشرائط السورية"، كأرشيف منطلق من حماسة ناشطين مجتمعيين، هو أنه مشروع ذو نهج تشاركي مع القاعدة الشعبية والمجتمعية، حيث يعتمد في حفظ التراث الموسيقي على تجميع المواد من مختلف فئات وأفراد المجتمع – أو ما تسميه عالمة الموسيقى "سارة بايكرSarah Baker"(2018): "إصنعها بنفسك" كنهج في الأرشفة.
في الوصف والشرح، يظهر النهج الذي يتبعه المشروع والذي يتضمن مشاركة التنوع الموسيقي الثري "مع السوريين والعالم الأوسع عبر المنصات والوسائط المتعددة، بما في ذلك المقابلات مع موسيقيين ومنتجين من تلك الحقبة"، هذا كله "بالتزامن مع تشجيع النقاش حول شبكات الموسيقى في سورية ما قبل الحرب واليوم".
إنطلاقاً من هذه الرؤية، فإن "أرشيف الشرائط السورية" ليس أرشيفاً مكتملاً، بل على العكس، هو "محاولة" للأرشفة – إنه أرشيف نابض بالحياة وفي طور النمو المستمر. مؤسس المشروع، "مارك جرجس" تحدث عن خطة فريق العمل بمشاركة 600 شريط، بشكل تدريجي من خلال مسار متواصل عبر تبرعات أرسلت من قبل الجمهور والمساهمين. الأهم من ذلك، فإن فريق "أرشيف الشرائط السورية" سيشارك مقابلات عن التاريخ الشفوي مع منتجي الملصقات الموسيقية، مالكي المتاجر الموسيقية والموسيقيين من تلك الحقبة.
إن موقع المشروع - "أرشيف الشرائط السورية" - على شبكة الإنترنت، والمتوقع أن ينطلق في بداية العام 2022، سيقوم باستقطاب مقالات مكتوبة ومقالات رأي، كما مساهمات أخرى كالأمزجة الصوتية وغيرها الكثير. من هنا، فإن انطباعات الجمهور، هواة القطع الموسيقية النادرة، الموسيقيين وسواهم، ستشكل رافداً لفريق عمل المشروع في توجيه عملية تنظيم المحتوى.
إنطلاقا من هذه الاستراتيجية، يشرح جرجس: "نهدف إلى مشاركة المزيد من الأشرطة خلال عملنا، والقرار في هذا يرتبط بالإنطباعات التي ستردنا من متابعينا، وإلّا فإن مشروعنا سيكون أرشيفاً ميتاً". كما يشير جرجس إلى أهمية المسار التفاعلي خلال عملية الأرشفة بالنسبة إلى "أرشيف" كمنتج نهائي.
في المحصلة، إن توسع الأرشيفات الموسيقية المجتمعية كردة فعل عن عدم الرضى عن القيود المؤسساتية والنابعة من الإلتزام حيال عملية االمساهمة في الدمج المجتمعي كوسيلة إثبات للوجود، فتح آفاقاً جديدة في عملية فهم الملكية الموسيقية.
وتجدر الإشارة إلى أنه، وعبر التماس الحصول على الإذن بمشاركة النسخ الرقمية للأشرطة بما فيها أصوات بعض حفظة الموسيقى في سورية، يتبنى المشروع بشكل قطعي، مبادىء الشراكة التي كان يتم تقاسمها بشكل متساو بين منتجي الموسيقى، الموسيقيين، الهواة والجمهور، الذين صنعوا، شاركوا، وتبادلوا الأساليب والمسارات الموسيقية التي اختصت بها المجموعة الرقمية.

الأهم من هذا، فإن مشروع "أرشيف الشرائط السورية" يجب أن ينظر إليه بكل اهتمام باعتباره يتمتع بسطوة "شاهد العيان" على الأحداث في سورية ما قبل وبعد الثورة والحرب. خلال العقود القليلة الماضية، كانت الشرائطة الموسيقية المنتجة والمتداولة في سورية، أولاً وقبل كل شيء، ثمرة توسع ديمقراطية تسجيل وانتاج الموسيقى في عصر الشرائط، حيث كانت بمثابة "الشاهد" على حيوية وتنوع مشاهد الموسيقى المناطقية الشعبية في البلد. في سورية الحرب وما بعدها، تمثل شرائط حقبة ما قبل الحرب، التي تم إنقاذها، شهادة حية على التصميم الفردي والجماعي من أجل الحفاظ عليها وإعادة إحيائها، بهدف جعل التسجيلات الموسيقية المناطقية بمتناول الأجيال الشابة في سورية كما لدى الجمهور الأوسع.
إنطلاقاً من هذه الرؤية، فإن "أرشيف الشرائط السورية" ليس فقط أرشيفاً للذاكرة، بل هو أرشيف "الخيال" الذي يمتلك "القدرة على استشراف" (أبادوراي، 2013) سورية ما بعد الحرب.


لقد ولدت الحاجة الملحة لحفظ أنماط الموسيقى الشعبية لسورية ما قبل الحرب من الخوف من فقدان بعض التنوع الموسيقي للبلاد. إن التدمير المستمر، التهجير، وتفكك البيئات الحاضنة للموسيقات الشعبية المتنوعة، كانت كلها دافعاً إلى تأسيس "أرشيف الشرائط السورية". كما أن المشروع يمثل العلاقة المستمرة والحيوية بين الأرشيفات المجتمعية ومؤسسات البحث الثقافية.
وفيما فتح "أرشيف الشرائط السورية" باباً على مجموعات نادرة وثمينة من التسجيلات الموسيقية، إلّا أنه لا يجب أن نعتبر أن لجميع السوريين فرصاً متساوية في الوصول إلى منصات الإنترنت، التواصل عبر هذه الشبكة، والهواتف الذكية. كما أنه، وفي ظل القيود المفروضة على التكنولوجيا والسفر، فإن المشروع مخصص للأداءات الشخصية، المعارض، والعروض الموسيقية الحية بهدف الوصول إلى المجتمعات السورية في داخل وخارج سورية على حد سواء.
في النهاية، فإن فريق عمل المشروع يهدف الى إيجاد مساحات جديدة لإشراك المزيد من الجمهور الطامح إلى توثيق وحفظ بعضاً من تراث سورية الموسيقي خدمة لأجيال المستقبل.

المراجع
Appadurai, A. (1990). Disjuncture and Difference in the Global Cultural Economy. Theory Culture Society, 7, 295–310.
Appadurai, A. (2003). Archive and Aspiration. In W. Maas, A. Appadurai, J. Brouwer, & S. C. Morris (Eds.), Information Is Alive: Art And Theory On Archiving And Retrieving Data (pp. 14–25). NAI Publishers.
Baker, S. (2018). Community Custodians of Popular Music’s Past: A DIY Approach to Heritage. Routledge.
Cifor, M. (2016). Affecting Relations: Introducing Affect Theory to Archival Discourse. Archival Science 16 (1): 7–31.

فرح زهرة

فرح زهرة طالبة دكتوراه في اختصاص علوم الموسيقى الإثنية في مركز الدراسات العليا بجامعة مدينة نيويورك. وهي حاصلة أيضًا على ماجستير في الفلسفة من الجامعة نفسها. يدرس بحثها ممارسات أرشفة الموسيقى العراقية في عراق ما قبل وبعد الحرب بين العراقيين في الوطن وبين الشتات العراقي. تشمل اهتماماتها البحثية أيضًا نظرية وممارسة المقام، والموسيقى والصراع، وعلوم الموسيقى الإثنية التطبيقية، والأداء كوسيلة بحث. قبل انضمامها إلى مركز الدراسات العليا، أكملت فرح درجة الماجستير في كلية هارفارد ديفينتي حيث ركزت أبحاثها على قضايا الموسيقى في الثقافات الإسلامية. درست فرح أيضًا العزف على العود في بيت العود العربي في القاهرة وبغداد وتخصصت في أسلوب العود العراقي.